غرناظة في داخلي ما هي إلا كلمة واحدة: آه ...
يغيب اشتياقي إليها كحمّى، تهدر أحياناً على جوانب دماغي، و في أحيان أخرى تغيب كأنها لم تكن في حياتي يوماً.. بل تغيب و كأنها لم تكن يوماً في العالم.. تغيب تماماً كطفلٍ يلعب الغميضة، و يجلس في مخبئه كاتماً ضحكة خبيثة.
غرناطة .... غرناطة .....غرناطة و كل ما تبقّى في الدنيا هراء خرائط
أجلس الآن في زاويتي في الجامعة الأردنية ، و عندما أنظر إلى الوراء، أدرك أنني أملك الآن بهاء و كمال تلك الأيام. أملكه الآن كاملاً لا شية فيه. الحنين ليس لي ، فانا أدرك ..أنا أعرف .. أنا أضع كمال الذكرى في جيبي الصغير.
إن كانت تلك الأيام قد علمتني شيئاً فقد علمتني أن الحياة خلقت لنحياها على عجل، ثم لنرويها على مهل.
عرفت - حتى أعمق نقطة في تكويني - أنني لا أريد أن أدخل الجنة لمجرد أن أنجو من النار ، أو لأتنعم بالنعيم الأبدي .. بل أريد - و أعتزم- أن أدخل الجنة لكي أتحرر من مفهوم الزمن. أريد أن أكفّ عن نزف الدقائق و الساعات و الأيام، و أريد أن أمضي إلى الأمام دون أن أرى شظايا عمري تتناثر خلفي.
غرناطة أسكرتني بهذه الرغبة لأنها صغيرة و عميقة. شوارعها معدودة ، زواياها معدودة ، و طرق الضياع فيها محدودة ، و كلما مشيت في زقاقاتها كنت أرى بوضوح أكبر مظاهرةً من الدقائق التي تقفز في وجه الأبدية محاولةً أن تثبت وجهة نظر ، بينما الأبدية تزيحها كالغبار و تلقي بها إلى النهر ... إلى البحر .. إلى مزبلة التاريخ.
غرناطة الصغيرة تحبني و أحبها و تملكني ، و لكنني لا أملكها، و لهذا كان سيف الزمن مسلطاً على رقبتي.. لم أكن أنظر إليها بعينيّ، بل كان دماغي كله يتحول إلى اسفنجة تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تغب غرناطة كاملة، حتى إذا انتهى الزمن و ما عاد بإمكاني أن أراها، كان بإمكاني أن أستحضرها من ذاكرتي ، و أن أعيشها من جديد في نعيمي الشخصي جداً.
أذكر بوضوح، يوماً كنت فيه في زقاقة من زقاقات البايثين، حيث يرفع المرء رأسه و يرى - على حين غرة- في فسحة الأفق بين بيتين ، يرى جانباً من قصر الحمراء، و جانباً من جبل السبيكة ، و جانباً من نهر الداررو .. يرفع المرء رأسه و على حين غرة تهاجمه الجنة و هو في منتصف دنياه!
و هنا يشعر الإنسان الفاني بفرط سخافته... بشدة ضعفه.. بمحدودية إدراكه .. كنت حينها أقول: ماذا يفعل المرء بهذه الكمية الخرافية من الجمال، و كيف يتعامل مع ما تبقى من حياته؟ ماذا أفعل الآن؟
كنت حينها أفكر أن اجلس.. أفكر في أن لا أدع هذه اللحظة تمضي .. كنت لا أملك الوقت .. لا يوجد وقت، كان هنالك ساعة رقمية ضخمة تدق في كنف روحي تعدّ الثواني عدّاّ عكسياً و تدفعني للركض، للصراخ ، لترجّي الأبدية لكي تمضي على مهلها. و لهذا كنت أظل واقفة صامتة شاخصة البصر ، و أنفق عملة الوقت التي لا أملكها، كمتسول يهَب ما تسوّله إلى متسوّل آخر.
لم أكن اجلس. و هنا أريد أن أشكر براز الكلاب... أريد أن أشكره من أعمق أعماقي لأن الحياة لا يمكنها، و لا ينبغي لها أن تكون بهذا الكمال. سأذهب إلى الجنة و هناك سيكون لي غرناطتي. غرناطة لي لوحدي، كحلم الفاتح القديم الذي جاء إلى غرناطة فأسَرَتْه فأحضر حضارته كلها و جاء لينام في حضن مدينته و ليطيل أمد هذا الحلم.
غرناطة . غرناطة .. غرناطة
ليست مدينةً و لا قصراً، و لا نهراً يجري هارباً من الأسوار.. غرناطة هي لحظة مستديرة ثابتة كاملة في وجه الأبد ، و هي المكان الذي نظر إلي فيه الله و دعاني بكلمات واضحة إلى مملكته الأبدية.
أحبك جداً
تقوى
٢٤-١-٢٠١٢
No comments:
Post a Comment