أرملة مستجِدّة
الموت أصدق إنباءً من الحياة. مع ذلك فهو يبقى فكرةً مجردً شاسعة، مهما حاول الإنسان أن يستوعبها، و أن يقبض عليها من كل جوانبها، سيظلّ هنالك دائماً جانبٌ واحدٌ على الأقل منها متفلّتاً من عقال الإدراك. سيظلّ الموت مجرّداً مبهماً غائماً، حتى إذا وصلْتَ إلى وجوه الأرامل، وجدْتَ الموت مُجَسّداً متجلّياً لا شية فيه.
الأيتام يكبرون و يصنعون قدرهم الشخصي، و الأمهات الثكالى يتُهْنَ في تفاصيل الألم العظيم، أمّا الأرامل فيجدنَ الموت جالساً يلفّ ساقاً على ساق و يرمق كل شيء بعين السخرية.
كل الأشياء – منذئذ- تدعو إلى الأسف. النصف الفائض عن الحاجة في السرير، و الصحف الصباحية المطوية،و منافض السجائر المركونة، و الكنبة الموازية للتلفاز التي ما يزال اسفنجها مكوّراً في المكان الذي كان يجلس فيه الفقيد..كلها أشياء تدعو إلى الأسف.
ساعة يده، و قلمه، و الكوب الذي كان يضع فيه طقم أسنانه في المساء، و أثر بصْمَتِهِ على الريموت، مفكّاته و براغيه المعلّقة على الجدار، و اسمه الرباعي المطبوع بأناقة على أكياس الدواء ... و وجهه و صوته الذي يحدّ كل الأشياء من الشمال، و من الجنوب و الشرق و الغرب أيضاً .. أشياء تدعو إلى المزيد من الأسف.
جدّتي، ما تزال حديثة عهد بالترمّل...لم تتعلّم بعد كيف تمدُّ صوتها دون أن ينكسر بالبكاء، و لم تتفق مع نفسها على ما ستفعله بكل هذا الوقت الفائض عن الحاجة، و بالمساحة الشاسعة بين أرض و سقف البيت الكبير الفارغ.
حديثة عهد بالترمُّل ...لم تخرج بعد من تحت فيضان الأوراق، لكنها مع ذلك أرَتْنا دفتر عائلتها الجديد: لقد صارت جدّتي إلهة الأسرة، طالما أن ربّها قد ترجّل.
عودتها اليوم من البنك لتسوية شأن "راتب المرحوم" ذكّرتني بالمثل القائل: "موت و خراب ديار".
و كحكومة فائزةٍ بالثقة، أرَتنا راتبها الجدي: مئة و أحد عشر ديناراً بالتمام و الكمال. أرملة الأستاذ المربّي الفاضل الذي خرّج نصف رجالات لوائنا - أو يزيد- تستلم هذا الراتب البائس، وكأنها أرملة آذن المدرسة، و تقول مازحة في الهاتف: راتب التنمية أحسن.
اتّضح أن جدّي الذي خدم "الوطن" لقرابة الأربعين عاماً معلّماً، و مدير مدارس، و مدير مديريّات تربية .. أن هذا الرجل الذي فرى مرارته ليربّي و يعلّم، و الذي أثقل قلبه بهمّ العلم و المتعلمين، لم يكن عناؤه يساوي عند الحكومة جناح بعوضة ..جناحٌ ثمنه مئة و سبع و أربعةن ديناراً لا غير.
سامحه الله، لو أنه كان أمّيّاّ حاذقاً، لاستغل شعبيته و نجح في انتخابات ما، و لأنعم على أرملته براتب تتعدد فيه الخانات و الأصفار.
قال لنا مرة: أحنا فلّاحين، لا ولاد عشيرة و لا تجّار، و لو ما قرينا كنا بعدنا و لا إشي. و كان يردّد بيت الشعر:
العلم يبني بيوتاً لا عماد لها و الجهل يهدم بيت العزّ و الكرم
كان يردده بيقين، يبعث الآن على التبسّم. إنه لَمِنَ المسخرة أن نعيش هكذا و نموت هكذا. أن نشعر بالامتنان للإمارات التي بَنَتْ بيتنا و علّمت أولادنا و أنْبَتتْ لحم أكتافنا، و أن نشعر بلسان الوطن يمتدّ لنا بهذه الصلافة في الوقت الذي نرزح فيه تحت نير الفقد و الحنين.
أكتب هذا الكلام من على سطح بيت جدّي، و في الأفق تلوح مأذنة الجامع. الجامع جار المقبرة، حيث ينام هو الآن هادئاً مطمئنّاً بعيداً عن قرف الرواتب التقاعديّة، و لعّيبة القمار، و زبونات شانيل و ديور.
ينام مخدوعاً نوعاً ما، و لكنه في دار الحق، و نحن و أرملته و دنانيرها المئة و الأحد عشر في دار "الحدّ الأدنى للأجور".
مئة و أحد عشر، تنمو كالكشرة بين العينين و كثلاث علامات تعجّب على امتداد هذا الفقد و اليتم ... و الترمّل قبل كل شيء.
تقوى
17-6-2012
2 comments:
الله يرحم جدك ويحسن اليه
تدوينه مؤلمه بكل ما فيها ومعانيها
ya alla it touched my heart so much !
its a situation that make tears easily flow from eyes !
alla yer7amu w ensha2alla ma2wa el janneh !
Post a Comment